شارك المقال

قالت الإسلام والعرب في المدارةِ والمُداهنةِ، وهل كان النبي صلي الله عليه وسلم يداري الناس

إذ المدارة مطلوبة ومستحبة والمداهنة مذمومة مستقبحة، قال ابن القيم: "المدَاراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما: أن المدَاراة تلطُّف الإنسان بصاحبه حتى يستخرج منه الحق أو يرده عن الباطل، وأما المداهن، فهو الذي يتلطَّف مع صاحبه ليُقرَّه على ذنب أو يتركه على هواه

قالت العربُ

دَارِهِمْ ما دُمْتَ فِي دَارِهِمْ        وأَرْضِهِمْ ما دُمْتَ فِي أَرْضِهِمْ

يمكثُ المرءُ أحيانًا مضطرًّا مع مَن لا يطيقُ ويلصق بمَن لا يحبُّ، ولولا المداراةُ لما صَفَى بالُه، وما اتسعتْ معيشتُه، ولجاوَرَه الهمُّ، ولازَمَه الغمُّ، وقد قِيل: مَن هَجَرَ المداراةَ قارَنَه المكروه، أي لازمه ولم ينفكَّ عنه، وقيل أيضًا: ترْكُ المداراةِ طرفٌ من الجنونِ.

فالمدارة: هي كما قيل – سياسةٌ رفيعةٌ تجْلبُ المنفعةَ، وتدفَع المضرَّة، وهي أيضًا البعض: مفهوم المداراة، وهو يعني التصنُّع في إظهار حسْن العِشرة لمن يُخشى شرُّه، ولا يُؤمَنُ ضررُه ووصفه الشاعر تاليًا:

مَا دُمْتَ حَيًّا فَدَارِ النَّاسَ كُلَّهُمُ                    فَإِنَّمَا أَنْتَ في دَارِ الْمُدَارَاةِ  
مَن يَدْرِ دَارَى وَمَنْ لَمْ يَدْرِ سَوْفَ يُرَى          عَمَّا قَلِيلٍ نَدِيمًا لِلنَّدَامَاتِ

هل المدارةُ ضرْبٌ من النِّفاقِ أو التلوُّنِ أو ما يُسمَّى بذي الوجهين ؟؟

تنبَّه معي بوَّب الإمامُ البخاريُّ في صحيحه باب: المداراةُ مع النَّاسِ، ثمَّ أدرَجَ حديثًا عن عائشةَ رضي الله عنها قائلة: أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: «بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ، وَبِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ» فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَائِشَةُ، مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ». أي مخافة شره.

فهل فعْلُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم نفاق ؟

لا وبدون شكٍّ ولا ريبٍ، إنما أرادَ أنْ يُبيِّنَ ويُشرْعِنَ أنَّه لا بدَّ من مداراة النَّاسِ أيًّا كانوا ما لم يتعدُّوا حرمات الله وحدودَه، ويلزمنُا أنْ نبسطَ لهم الجانب ونليِّنَ لهم العَريكة. 

وذكر أيضًا – أي الإمام البخاري، قولًا لأبي الدَّردَاء قائلا: «إِنَّا لَنَكْشِرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ، وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ» ومعنى (لنكشر) من الكشر وهو ظهور الأسنان وأكثر ما يكون عند الضحك، وهو المراد هنا، وهذه الكلمة دارجة عندنا على أن المكشر العبوس المتنكد، ومعنى (لتلعنهم) لتبغضهم.

وعدَّ بعضُ العلماء المدارة صدقةً يَتصدَّقُ بها الإنسان واعتمدوا بذلك على أحاديث يشوبها بعض الضعف، ومنها ما يُروَى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم – قوله: (مُداراة الناسِ صدقةٌ).

وعن حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ: “أَدْرَكْتُ النَّاسَ يَعُدُّونَ الْمُدَارَاةَ صَدَقَةً تَخْرُجُ فِيمَا بَيْنَهُمْ”، وعن الحسن البصري: “المداراة نصف العقل”، ومن حِكَمِ الفُرْس: “مَن لَمْ يَلِنْ للأمور عند التِوائِها تعرَّضَ لمكروه بَلائِها.

وذُكِرَ عن سالمٍ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر بن الخطاب، قائلا: «إِنَّ مِنِ ابْتِغَاءِ الْخَيْرِ اتِّقَاءَ الشَّرِّ»، ولذلك قَالَ لُقْمَانُ آمرًا ابْنَه: أَيْ بُنَيَّ، اعْتَزِلِ الشَّرَ كَمَا يَعْتَزِلُكَ، فَإِنَّ الشَّرَّ لِلشَّرِّ خُلِقَ”، فلا يكن الإنسانُ صداميًّا ولا للنَّاسِ مواجهًا ولا لهم مشاكلًا ومعارضًا ولا باديًا. والسلامةُ لا يعدِلُها شيءٌ.

 هل المدارةُ دائمًا مطلوبةً في كلِّ وقت أم تُستعملُ عند الضَّرورة ؟

معلومٌ أنَّ المسلمَ واضحٌ وصريحٌ، فمَخْبَرُه كمظْهَرِه، وصورتُه كمعناه، فهي من المفاهيم المتبسَةِ الغير واضحة؛ أي أنَّ الأمرَ ليس على إطلاقِه فلا يتكلَّفُ المرءُ في استعمال المدارة؛ لأنَّها لربَّما تُفْضِي إلى المداهنة المحرمة شرعًا، والضَّرورةُ تُقَدَّرُ بقدَرِها.

فلا يَتخلى المرءُ بسبب المدارة عن أصلِه ولا عن فصلِه ولا منهاج حياته بحيث يتخذُها ذريعةً لكلِّ شيء، فالبعض يستعمل المدارة؛ لنيل مآربه ومشاربه وربما كذب وبلح وملح حتى يصل لبغيته ومراده على حساب دينه ومبادئه، فيفعل ما يرضي الناس ولو أغضب ربه، وأذهب دينه.

الفرقُ بين المدارةِ والمُداهنةِ

يوجد فرق بين المدارة والمداهنة؛ إذ المدارة مطلوبة ومستحبة والمداهنة مذمومة مستقبحة، قال ابن القيم: “المدَاراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما: أن المدَاراة تلطُّف الإنسان بصاحبه حتى يستخرج منه الحق أو يرده عن الباطل، وأما المداهن، فهو الذي يتلطَّف مع صاحبه ليُقرَّه على ذنب أو يتركه على هواه، فالمدَاراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النفاق.

وقد ضُرِب لذلك مثلٌ من أروع الأمثلة، وذلك كرجل أصابته قرحةٌ في قدمه، فجاء الطبيبُ الرَّفيقُ، فأخذ يُعالجُ هذه القُرحَة، ويُخرجُ ما فيها، ثمَّ إذا به يضعُ الدَّواءَ الذي يُنبتُ اللحم، ثمَّ يتعاهدُها، ثم يضعُ عليها المَراهم حتى ينشِّفَهَا، ثمَّ يضعُ عليها خِرْقةً، فلا يزال يُتابعُ هذا وهذا حتى نشفتْ رطوبتُها، وأمَّا المداهن فهو الذي أتى إلى صاحب هذه القرحةَ وقال: لا بأسَ عليك، إنَّما هي شيءٌ يسيرٌ، واسْتُرْها عن عيون النَّاسِ بخِرْقَةٍ وتَلهَّى عنها، فلا يزال يزدادُ شرُّها وتكْثُرُ عفُونَتُها حتى يهلكَ”.

وقال القرطبي: “بذلُ الدُّنيا لصلاح الدُّنيا أو الدِّين، أو هما معًا، وهي مباحة، وربَّما استُحِبَّت، والمداهنة: تركُ الدِّين لصلاح الدُّنيا”، وقال الغزاليُّ: “الفرقُ بين المدَاراة والمداهنة بالغرضِ الباعثِ على الإغضاء؛ فإن أغضيتَ لسلامةِ دينِكَ، ولمَا ترى من إصلاح أخيكَ بالإغضاء، فأنت مُدارٍ، وإنْ أغضيتَ لحظِّ نفسكَ، واجتلابِ شهواتِك، وسلامةِ جاهِكَ، فأنت مُداهنٌ.

وقال ابنُ بطَّال: “المدَاراة من أخلاق المؤمنين… وقد ظن مَن لم يُمْعِنُ النَّظَرَ أنَّ المدَاراةَ هي المداهنة، وذلك غلطٌ؛ لأنَّ المدَاراةَ مندوبٌ إليها، والمداهنةُ محرَّمةٌ، والفرقُ بينهما بَيِّنٌ، وذلك أنَّ المداهنةَ اشتُقَّ اسمُها من الدِّهان الذي يَظهرُ على ظواهر الأشياء، ويسترُ بواطنَها.

وفسَّرها العلماءُ فقالوا: المداهنةُ هي أنْ يَلقى الفاسقُ المظهر، فيُؤالفَه ويُؤاكلَه، ويُشاربَه، ويرى أفعاله المنكرة، ويريه الرضا بها، ولا ينكرُها عليه ولو بقلبه، وهو أضعفُ الإيمان، فهذه المداهنة التي برَّأ اللهُ عزَّ وجلَّ منها نبيَّه عليه السلام بقوله: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (القلم: [9]،  والمدَاراةُ هي الرِّفقُ بالجاهل الذي يستَتِرُ بالمعاصي، ولا يُجاهِرُ بالكبائر، والمعاطفةُ في ردِّ أهلِ الباطلِ إلى مُراد الله بلِينٍ ولُطفٍ، حتى يَرجعوا عمَّا هم عليه

وقال ابنُ حَجَرٍ: وضابطُ المُداراة: ألَّا يكونَ فيها قدحٌ في الدِّين، والمداهنة المذمومة: أن يكونَ فيها تزيينُ القبيح، وتصويبُ الباطلِ، ونحوُ ذلك، وقال ابنُ حِبَّان: “والمدَاراةُ التي تكونُ صدقةً للمُداري هو تخلُّق الإنسان بالأشياء المستحسنة مع من يدفع إلى عشرته، ما لم يشُبْها معصيةَ الله، والمداهنةُ هي استعمالُ المرءِ الخصالَ التي تُستحسنُ منه في العِشْرَة، وقد يشوبُه ما يَكرَهُ الله تعالى”.

المصادر:
  1. الصداقة والصديق ( 55).
  2. 2- صحيح البخاري (8/ 13).
  3. 3- مداراة الناس لابن أبي الدنيا (ص: 36- 48).
  4. 4- فتح الباري؛ لابن حجر: (10/ 454- 52).
  5. 5- إحياء علوم الدين؛ للغزالي (2/ 182).
  6. 6- الرُّوح؛ لابن القيم، (231).
  7. 7- شرح صحيح البخاري؛ لابن بطال: (10/ 305 – 306).

عن الكاتب

فهرسة المقال

تابعنا على منصات التواصل

إعلان | أطلب متجرك

أخر المنشورات

تابعنا على الفيسبوك

تابعنا على اليوتيوب

إعلان | أطلب متجرك

توضيح

اي عملية نسخ او اقتباس او ترجمة او نقل تم لاغراض علمية وتدريبية وتعليمية بحته وقد تم انشاء هذا المحتوى بمعرفة خبراء في مجال التقنية اما عن طريق إنشاء او تحرير او نقل او نسخ او اقتباس او ترجمة المحتوى من مصادر خاصة او عامة وكل ذلك ضمن حقوق النشر المتعارف عليها.

اي أخطاء تظهر في المحتوى مهما كان نوعه او تصنيفه يمكنك تحرير رسالة فورية لادارة موثوق لاجل تصحيح هذه الاخطاء، وسنكون شاكرين لك في حال قمت بالتعاون معنا لاجل اصلاح هذه الاخطاء.

أرسل تصحيح

شاركنا رايك وتقييمك للموضوع

{{ reviewsTotal }}{{ options.labels.singularReviewCountLabel }}
{{ reviewsTotal }}{{ options.labels.pluralReviewCountLabel }}
{{ options.labels.newReviewButton }}
{{ userData.canReview.message }}